الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية القصرين بين الإرهاب والاغتراب

نشر في  06 أوت 2014  (11:50)

 إنّهم يعيشون بيننا ، يأكلون ما نأكل.. يجوبون أزقّة القصرين الضيّقة.. يرتادون مقاهيها.. يشاهدون أخبار الثامنة.. يسخرون من الرئيس المنصف المرزوقي وهو يتوعّدهم  ثلاثا : «لن تمرّوا ! لن تمرّو ! لن تمرّوا..»  معنا وبيننا وفي الأحياء الشعبية المكتظة يختبئون. بلحاهم الكثّة او الحليقة، بأزيائهم الأفغانية او بسراويل «الدجينز» العصرية يلتحفون بسواد الليل لينزلوا من جبال الشعانبي والسمامة والسلوم نحو الأحياء الشعبية. الأهالي يعرفونهم بالأسماء و بالوجوه. بل هناك من أبناء مدينة الصبّار من يقول : «  لعلّ أكتافهم تلامس أكتافنا حين نقوم للصلاة أو لعلّنا نصلّي ورائهم ولا ندري.. لعلّهم يمشون في جنائزنا وحين يُدفن الميت لا يتلُون الفاتحة أو لعلّهم في مساجدنا ملائكة، وفي الليل قتلة محترفون..»
اذا كانت جبال الشعانبي والسمّامة والسّلوم وبوشبكة ودرناية هي الخلفيّة ذات الكثافة النباتية الملائمة لتحصّن جحافل الارهابيين، فان بعض الاحياء الشعبية في القصرين والقرى النائية المتّكئة على سفح هذا الجبل او ذاك هي ايضا ملاذهم و ملجؤهم. ولكن كيف لهؤلاء الارهابيين أن يكونوا هنا وهناك ؟ في الجبل وفي المدينة في الآن نفسه؟

القصرين وجبالها، من يُحاصر الاخر؟ 

العارفون بتضاريس المدينة سرعان ما تتبدّد حيرتهم اذا أطلّوا على موقعها الجغرافي. القصرين، مدينة التين الشوكي والحلفاء، محاصرة بسلسلة جبلية شاسعة. يحدّها من الغرب جبل الشعانبي الشاهق والذي يعتبر امتداداً لسلسلة الأطلس الصحراوي، و هو لا يبعد على مركز المدينة سوى 6 كلم و يمتدّ الى الكاف وجندوبة حيث جبال ورغة والفوازعية وعين دراهم، ثم يصل الى التراب الجزائري. أمّا  جنوب القصرين فيلوح جبل السلوم المترامي مطلّا بهضابه المترامية ومسالكه المتفرّعة على حي الزهور، اما من الشمال فيحدّها جبل السمامة. 
بالنسبة لجبل السلوم المحاذي لحي الزهور فلا يبعد عن القصرين سوى 7 كلم، هو اذن ضاحية غابيّة للمدينة. صحيح انّه بين الفينة والأخرى تتفطن وحدات الأمن لمحاولة مجموعة ارهابيّة التسلّل من السلوم الى حي الزهور على غرار ما حدث في 23 جوان الفارط، لكن روايات بعض الشبان بحي الزهور وحي النور تشير إلى وجود عدة طرق و منافذ مؤديّة من والى السمامة  والسلوم والشعانبي من شأنها تيسير تنقّل الارهابيين بين المدينة والجبل. شباّن آخرون يؤكدون انهم لا يزالون يتوجهون الى الجبل  للفسحة او للاطلاع على ما يجري بين ثناياه متى شاؤوا متفادين الدوريات الامنية والعسكرية.

شبح الارهاب في الشعانبي

في افريل الماضي عندما اعلنت وزارة الدفاع ان جبل الشعانبي منطقة عسكرية محظورة، اجتمع عدد من المراسلين الجهويين والناشطين في المجتمع المدني، ثم انطلقوا في سيارتين الى جبل الشعانبي. دخلوا «المنطقة العسكرية المحظورة» دون ان يعترض سبيلهم أي جندي.. صعدوا الجبل.. توغّلوا داخل احد كهوفه السحيقة.. التقطوا صورا للذكرى وللتوثيق.. استغرقوا اكثر من 5 ساعات. لم يلمحوا أي ارهابي.. عادوا أدراجهم الى المدينة، ناشرين ما وثّقوه من صور و فيديوهات على موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك». و سرعان ما كان رد المؤسسة العسكرية التحقيق مع الشبّان والتنصيص عليهم بحذف ما روّجوه عن زيارتهم للجبل.
اما على سفوح الجبال فان الاوضاع الاجتماعية الصعبة للعشرات من القرويين اصبحت تشكل عبئا و فيصلا في مواجهة الارهاب. معظم الاسر المستقرة بالوهاد والتلال المحاذية لجبال السمامة والشعانبي والسلوم تفتقد الى ابسط مورد رزق تقتات منه. فئة منهم تمتهن رعي الاغنام و الماعز و تصعد بصفة يومية ألى الجبال بحثا عن الكلأ، وتُتّهم طائفة منهم بتزويد المتحصّنين بالجبال بالتموين و المعلومة مقابل مبالغ مالية ضخمة. ويتحدث البعض عن وجود قائمة بالاسعار لما يتم تقديمه للتنظيمات الارهابية. سعر الماعز تجاوز ألف وخمسمائة دينار و الخروف بالفي دينار و رغيف الخبر بثلاثين دينار..).
على صعيد اخر لم ينكر احد الوعّاظ الدينيين بالجهة اندساس وجوه تكفيرية بين عامة الناس في حي الزهور، مشددا على خطورة بعض العناصر المسيطرة على مسجد التوبة بالحي المذكور.

الادارة و الجمعيات والاموال المشبوهة

العديد من الاهالي اضحوا لا يخفون تبرّمهم من سيطرة اسماء محسوبة على حركة النهضة على مفاصل الادارة على غرار الناجم الطرشي عضو مكتب النهضة بالقصرين الذي يشغل خطة رئيس اتحاد الفلاحة والصيد البحري بالجهة و محسن بوثوري الكاتب العام للمكتب الجهوي للحركة و الرئيس المدير العام للمركب الصناعي والتكنولوجي بالمدينة. 
كما يتحدث البعض الاخر عن تغوّل بعض الجمعيات المحسوبة على النهضة من قبيل «نساء اصيلات» او «تنمية بلا حدود»او «الايثار»و التي يديرها اعضاء فاعلون بالحركة على غرار بلقاسم محدودي، حيث يتم انفاق اموال طائلة في شكل مساعدات كسبا لاصوات انتخابية.
وبالرغم من فوز حركة النهضة في انتخابات 2011 بخمسة مقاعد بالمجلس التاسيسي عن مدينة الصبار الا ان الغضب الشعبي من بعض ممثليها بقبة باردو ما فتئ يزداد. النائبان وليد البناني و ناجي الغرسلي اصبحا غير مرحب بهما في الجهة. الاول تم طرده في ماي الفارط   تحت وابل من الحجارة عند زيارته منزل وزير الداخلية لطفي بن جدو على اثر العملية الارهابية التي اودت بحياة 4 امنيين، والثاني تمت مقاطعة مداخلته خلال تأبين المناضل احمد الرحموني في مارس المنقضي.
امام تدفق الأموال على جمعيات بعينها، تواجه بعض المنظمات المدنية والثقافية شحّا كبيرا في التمويل والمساندة. احد الفاعلين في المجال المسرحي بالقصرين (رفض الافصاح عن هويته) يتّهم حكومات ما بعد الثورة بالامعان في تهميش الحراك الثقافي بالجهة، والذي من شأنه الوقوف في وجه المشاريع الظلامية المتهافتة على البلاد برمتها. ليبقى مجهود الدولة في ارساء مضاد حيوي ثقافي غير ذي معنى. مهرجان السيليوم الدولي الذي يعتبر المتنفس الصيفي الابرز في المدينة يشتغل بميزانية لا تتجاوز 80 الف دينار، بينما لا تتعدى ميزانية أي مهرجان محلي بفريانة او الروحية او سبيبة 7 الاف دينار.

التهريب رافد اخر للارهاب

وانت تقصد مدينة القصرين من مختلف الوجهات، تطالعك العشرات من نقاط بيع البنزين المهرّب. على حافّة الطريق القادم من معتمدية سبيطلة مقاه ومطاعم ومحلات لبيع المواد الغذائية والخضروات أضحت فضاءات لبيع البنزين المهرب. عبوات بلاستيكية مرصفة تحت اشعة الشمس وعلى بعد امتار من الطريق و مضخات بدائية الصنع يداوم اصحابها على تقديم خدماتهم على مدار الساعة. اخرون لا يتوانون عن تدوين ارقام هواتفهم الشخصية على جدران محلاتهم لتيسير التواصل معهم. اما عربات النقل و التزود فما انفكت تجوب مختلف الطرقات المؤدية من والى القصرين. سيارات «اسيزي» او»dmax « مجهولة الهوية، بلا ارقام منجمية و بواجهات بلورية سوداء تحجب مشاهدة سائقها و تذرع الطرقات والمسالك الجبلية الوعرة والسهول والتلال بسرعة جنونية تفاديا لأّيّة مُراقبة امنيّة.
ولئن تحدثت بعض المصادر الامنية عن تشديد الرقابة على المهربين، فان شهادات بعض اهالي المناطق المجاورة من التراب الجزائري تؤكد تواصل عمليات التهريب عبر بوشبكة وحيدرة وفريانة وام علي والصخيرات وبودرياس والزرداب، وباساليب مستحدثة. ففضلا عن سيارات التهريب التقليدية يستعين البعض الاخر بجرارات وصهاريج عملاقة قادرة على استيعاب ما لا يقل عن 7 الاف لتر من البنزين المهرب، بينما تعتمد بعض العائلات القاطنة على الحدود بالحمير والبغال لنقل المحروقات الجزائرية عبر المسالك الجبلية.

 

امنيون متورطون في التهريب

هناك روايات عن تورط بعض الامنيين في التهريب سواء عبر الحدود الجزائرية او الليبية والذين يغتنمون عنصر الزمالة مع الدوريات الامنية على الطرقات لادخال ما طاب لهم من المواد الخطيرة. بل هناك حديث عن اشتغال أحد العناصر الامنية في التهريب منذ اكثر من 5 سنوات. حيث يتنقل الى معبري رأس جدير و بن قردان للتزود بالبنزين والسجائر والتجهيزات الالكترونية لبيعها فيما بعد باحدى مدن الوسط التونسي. كما كشفت بعض المصادر عن تورط بعض المستثمرين في اغراق سوق المنصف الباي بالعاصمة بمختلف المواد الالكترونية القادمة من معتمدية بن قردان. اللافت في الامر ان عملية نقل المواد المهربة تتم عبر العشرات من السيارات التي تكتفي كل واحدة منها بحمل 4 او 5 اجهزة تلفاز او مكيفات من بن قردان نحو صفاقس مقابل مبلغ مالي لا يقل عن 200 دينار ثم يتم افراغ شحنة السيارات في شاحنة ثقيلة تتولى فيما بعد السفر نحو العاصمة لتزويد بعض التجار بالمنصف باي.
ومن بين الاساليب التي يعتمدها المهربون في الجنوب التونسي، وفق رواية احدهم، الاستنجاد بسيارة تعهد إليها المهمة الكشفية، وذلك عبر التنقل امام سيارات التهريب لمد السائقين بالمعلومات عن الدوريات الامنية المتمركزة على الطرقات. كما يتم تقاسم الادوار بين المهربين خلال تنقلهم. اذ حالما تعمد قوات الامن الى مطاردتهم تقوم ثلاث سيارات حاملة لمواد مهربة بخسة الاثمان (ملابس وبنزين ومواد غذائية) بالسير بشكل متواز في الطريق لمنع اعوان الحرس او الديوانة من الامساك بالسيارات الاخرى التي تتقدمهم والتي عادة ما تنقل بضائع باهضة الثمن كالالعاب النارية او العجلات المطاطية او السجائر او حتى الاسلحة. 

في المدينة الشارع: أزقة وبنية تحتيّة «فريب»

على طول الشارع الرئيس لمدينة القصرين تتوزّع جل المؤسسات العمومية والخاصة، واجهات بلورية ملساء و لافتات اشهارية مضيئة وملوّنة، مكيّفات هوائية معلّقة وطريق افعواني لا تكاد حركته تسكن. ضوضاء المارة  المتواصلة ومنبهات السيارات المسرعة ليست سوى صورة خادعة لمدينة لغز. يكفي ان تعرّج على يمين شارع الحبيب بورقيبة بالقصرين او يساره لتكتشف ازقة مهترئة و بنية تحتية رثّة و بيوت قصديرية متناثرة.
 خلف احدى العمارات الحديثة التشييد وعلى امتداد سكة الحديد القديمة يجلس احد الشيوخ على مقربة من اكداس للملابس المستعملة هي كل تجارته. ملابس باهتة معروضة فوق بساط بلاستيكي وسط «سوق الفريب». في حركة ثقيلة يتفقّد الشيخ اثوابه ملوّحا بها عاليا في محاولة للتخلص من الاتربة العالقة، ثم يقول : «ما تراه حولك من باعة ليسوا سوى عينة من اهالي القصرين. فيهم رب العائلة و الارملة والطالب و خريج الجامعة. جمعتهم الحاجة والفاقة في هذا الفضاء التجاري». غير بعيد عنه ارتفع صوت احد الشبان: «كل شيء بدينار، سروال، مريول، شورت، لبسة نساء ثم اتجه نحونا قائلا : «في القصرين لم يتغير شيء. الفساد لا يزال ينخر الادارة. و الشباب لا يزال قابعا بالمقاهي. لا فرص عمل ولا فضاءات ترفيهية ولا حتى رد اعتبار لمن استشهد او جرح خلال الثورة، بل لاحظنا سيطرة وجوه نهضوية و تكفيرية على الادارات وحتى الجمعيات.»

للتهريب أيضا سوقه..

 

الكميات المهولة من البنزين الجزائري العابر للحدود التونسية عادة ما تجد لها مستقرّا بنقطة تجميع كبرى بالطريق الرابطة بين سبيطلة والقصرين. حيث عمد احد التجار الى تخصيص فضاء فسيح يلتقي فيه المهربون بتجار من مختلف مدن الشمال الغربي والوسط التونسي. مما يشير الى تحول المسالك والمعابر الحدودية بالقصرين الى خزان امداد لما لا يقل عن 10 مدن تونسية.
الاخطر من تجارة البنزين الوارد عبر الجبال هو انواع المواد المهربة من الجزائر او حتى من الجنوب التونسي. ففضلا عن التجهيزات الالكترونية (اجهزة تلفاز ومكيفات وثلاجات وهواتف..) والملابس والعاب الاطفال والمواد الغذائية منتهية الصلوحية، ما فتئت سيارات «الكونترا» تغزو الاسواق التونسية بالالعاب النارية و«الفوشيك» المحجّرة قانونا. ثم ان عدم السيطرة على آفة التهريب ومراقبة المواد المهربة و تحركات المهربين اضحى مصدر ريبة لدى السكان. فالبعض لا يستبعد تورط فئة من المهربين في ادخال السلاح او التستر او نقل المتورطين في الاحداث الارهابية الاخيرة التي شهدتها تونس.
ولئن تحدث احد العناصر الامنية، في تصريح لاخبار الجمهورية، عن نجاح وزارة الداخلية في استقطاب بعض المهربين لتزويدها بمعطيات ومعلومات عن التنظيمات الارهابية المتحصنة بالجبال، فإن هذا الاحتمال، ان ثبتت صحته، لا يخفي امكانية استغلال بعض المهربين للعلاقة الودية مع قوات الحرس والديوانة المتمركزة ببعض الطرقات لتهريب الاسلحة، بحكم عدم خضوعهم للتفتيش المحكم في غالب الاحيان.
وأنا استعد لمغادرة مدينة القصرين، لفت انتباهي توافد العشرات من المواطنين على إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. جحافل من المعدمين يتسابقون للوصول الى القائمات المعلقة على الواجهة الخارجية لهذه المؤسسة العمومية علهم يكونوا ضمن المتمتعين بمساعدات اجتماعية لا تتجاوز 70 دينارا أما على أطراف المدينة فيتصاعد دخان حريق بجبل الشعانبي يشقه بين الفينة والأخرى صوت طلقات المدافع.

ريبورتاج : محمّد الجلاّلي